حوار الرئيس ماكرون مع مجلة لوبوان [fr]

مجلة لو بوان: سيدي الرئيس، بدا لي أنكم ترددتم في الرد على طلب إجراء هذه المقابلة الذي استغركم بعض الوقت للتفكير. فهل يصعب على رئيس فرنسي التحدث عن الجزائر، ومخاطبة الجزائر؟

إيمانويل ماكرون: يتسم الأمر بصعوبة دائمًا، لأنّه محل تنازع، إذا صح التعبير. ومع أنّ التحدث عن الجزائر قد يمثل مخاطرةً، فهو أمر لا مناص منه. ويعد الأمر صعبًا في الجوهر لأنّه موضوع خصوصي الطابع يمس كل شخص. وأعني في ذلك أنّ التحدث عن الجزائر يمثل مسألةً داخليةً للكثير في فرنسا وخارجيةً كذلك اتجاه الجزائر والتاريخ. ويشمل التحدث عن الجزائر مخاطبة فرنسا وتاريخها في آن معًا، والفرنسيين الذين التحقوا بالجيش أو المجندين، والتحدث إلى جميع المنحدرين من أسر جزائرية مهاجرة، وحاملي الجنسية المزدوجة، والحركيين، والفرنسيين العائدين من الجزائر وأبنائهم ومخاطبة الجزائر اليوم. ويتمثل ذلك في أوجه ذاكرة لم يتم التوفيق بينها. لماذا؟ لأننا عانينا من صدمة لفترة سبعين عامًا، سبقها أكثر من قرن من الاستعمار. ونحن نحمل وزرًا يثقل كاهلنا ويفاقم تعقيد نهوجنا، وأدرك شغفكم بألبير كامو، فلا داعي لتذكيركم أنتم بالذات بأسطورة سيزيف الذي حُكم عليه دحرجة صخرة بلا انقطاع ولا سبب، ومع غض الطرف عن النظريات القائمة على فلسفة كامو التي تعتبر سيزيف سعيدًا بصرف النظر عما يفرضه عليه قدره. وتتخذ المسألة أبعادًا تتجاوزنا لأنها أكبر منا. واستعمرت فرنسا الجزائر بخيارات عسكرية. ومثلت تلك الخيارات أفعال جيل سبق حقبة استعمار "عالمي الطابع"، إذا صح التعبير، التي اتسمت بمكافحة القرصنة. واستعمرت فرنسا الجزائر بعد ذلك على نحو مختلف تمهيدًا لضم أراضيها واستيطانها، فقامت في الجزائر بغير ما فعلت في أماكن أخرى وفي أراضٍ أخرى. ولا يترتب على رئيس جمهورية تقييم حصيلة الاستعمار، التي تم تقييمها بالفعل وعلى نحو مفصّل، إلا أنّ ذلك يمثّل عاملًا من عوامل اللعب على وتر التاريخ وتفسيره والحقائق وسرد الأحداث. غير أنّ الحرب وقعت بعد ذلك، ونجم عنها عدد من المآسي يصعب التوفيق بين أحداثها. وحلت أخيرًا فترة سكون بعد إنهاء الاستعمار. ويجب التذكير بأنّ الفترة التي حلت في العقود الأخيرة في فرنسا اقتضت ضرورة النسيان، مع أّنه كثرت المحاولات في غير اتجاه، على غرار فترة ما بعد الحرب البيلوبونيسية التي فرضت النسيان بعدها! وهو ما حدث بالفعل. وحرمنا أنفسنا من حق تناول حقبة الاستعمار. وساهم جيل كامل من السياسيين الفرنسيين في نسيان تلك الحقبة وكوّن ذاته على هذا الأساس. أما في الجانب الجزائري، فتحقق الاستقلال من خلال الحرب ضد فرنسا، ولم تتم مراجعة سرد التاريخ، ولا التفكّر بشأن تلك الأحداث وتفسيرها على نحو مختلف. ولم يكن، من المفارقات التي قد تبدو إلى حد مأساوية، النسيان التام مثمرًا في فرنسا، لا بل فاقم الكبت الوضع الأساسي وزاد حدته. ويدفعني ذلك إلى وصف المسألة بالخصوصية الطابع. ويتمثل الأمر في عمل سياسي يماثل عمل الفرد على ذاته وعلى أهله وعلى الآخرين. وما تزال تتأثر الجزائر بالتاريخ الصادم في علاقتها مع فرنسا. وتتجلى الصدمة بوضوح بالفعل، ويمكن التطرق إليها بقدر ما نشاء، إلا أنني أرغب في تجاوز تلك المرحلة ويشجعني في ذلك ما يبدو لي رغبة حقيقية من الرئيس عبد المجيد تبون في استهلال حقبة جديدة بين فرنسا والجزائر. ويكتسي بالنسبة لي عدم التستر على ما مضى وكتم ما عاشه جيل تلك الحقبة أهميةً بالغةً. وبات من الضروري استهلال مرحلة جديدة والتوفيق بين السرديات المتباينة والتاريخ المعاصر والراهن. ويتحتم عليّ أن أذكّر أيضًا بأن حرب الجزائر، من الجانب الفرنسي، أم ضغائن ما بعد حقبة الاستعمار على فرنسا.

ويستوقفني ما تمثله حرب الجزائر من صدمة لدى أجيال لم تعايش حقبة الاستعمار وتنحدر من بلدان يكاد قد يكون أُنهي فيها الاستعمار بلا نزاع. ويعد لذلك التحدث عن الجزائر ضرورةً على أكثر من مستوى، إذا كنا نعتزم مواجهة الحقائق والمضي قدمًا. ويجب على الفرنسيين الاضطلاع بهذا العمل لأنفسهم في المقام الأول. ولا يقتصر ذلك العمل على التاريخ فحسب، بل يشمل تحمل مسؤولية سياسية. وباتت المباشرة بذلك العمل جوهرية من أجل العلاقة الثنائية بين البلدين ومن أجل علاقة فرنسا بالقارة الأفريقية. وسيفضي تسكين مختلف أوجه الذاكرة المتناحرة إلى تحقيق التوافق بين أقدارنا المتضاربة والمثيرة للاستياء في بلدنا. وتمثل القدرة على التطرق إلى هذه المسألة في إطار علاقة فرنسية جزائرية محسنة إمكانية إقامة علاقة ثنائية طبيعية ومثمرة مع القارة الأفريقية. ويتمثل المستقبل في إعادة النظر في هذا الماضي المشترك. وكانت هذه رسالة من الرسائل التي أعربت عنها خلال الرحلة الأخيرة التي أجريتها إلى الجزائر في آب/أغسطس 2022.

قلتم في خطاب تكليف السيد بنجامان ستورا مهمة إعداد تقرير يتناول ذاكرة الاستعمار وحرب الجزائر: "أود الإعراب عن رغبة متجددة بتحقيق المصالحة بين الشعبين الفرنسي والجزائري. ففي أي مرحلة ارتأت لكم ضرورة ذلك؟ وهل أثمرت تلك الرغبة عن فكرة أنّ حل مشاكل فرنسا يتطلب التغلّب مع ماضيها مع الجزائر؟ أو لأنّ مكافحة النزعة الإسلامية المتطرفة تتطلب تناول ما كبته النسيان؟

يتشاطر ملايين المواطنين العلاقة الفرنسية الجزائرية في حياتهم الشخصية وأذكر على سبيل المثال الجزائريين الذين يعيشون في فرنسا ويحملون بطاقة إقامة، وحاملي الجنسية المزدوجة والفرنسيين المنحدرين من أم أو أب جزائري مهاجر والحركيين وأبنائهم، والفرنسيين العائدين من الجزائر وأسرهم، والذين حاربوا على تراب الجزائر... ويتجاوز عددهم جميعًا 10 ملايين شخص. وتناحرت أوجه الذاكرة لمدة طويلة ولا شك أنّه كان يتعذر توافقها جزئيًا وهي أوجه مثلت عماد الحياة السياسية الفرنسية. وبنى اليسار الفرنسي فكره تاريخيًا على "إدانة" حرب الجزائر ولكن بغموض وهو فكر أفضى إلى عدد من الانشقاقات بين الشيوعيين والاشتراكيين. وصاغت منظمة الجيش السري الفرنسية والذين داروا في كنفها الحياة السياسية الفرنسية كذلك. ونشأت معاداة الديغولية التي اتصف بها اليمين المتطرف الفرنسي عن حرب الجزائر. وتأسست المجموعات السياسية الفرنسية على هذه الحرب وبنت عليها تاريخها واستمدت منها أصولها وهويتها وحتى فكرها السياسي الراهن في بعض الاحيان. وما يزال يمثل هذا التاريخ الصامت وهذه الذاكرة المجزأّة عماد حياتنا السياسية العصرية. وتؤثر هذه الذاكرة المفككة كذلك في علاقة بعض البلدان مع فرنسا. وتنطوي هذه الذاكرة على مشاعر كبت وعنف، فأذكر مثلًا أنّ العنف الذي تأتّى عن ناشطين من اليمين المتطرف وكذلك عدد من الأشخاص خلال تجمع نُظّم في مدينة تولون في إطار حملة الانتخابات الرئاسية في عام 2017، بعد عودتي من الجزائر وتصاريحي بشأن الاستعمار، بيّن درجة تأثير هذا الموضوع في خصوصية مؤلمة لا تنحصر في الذاكرة أو في التاريخ فحسب، بل تؤثر كذلك في تجارب الوقت الحاضر. ويتضح أنّ هذا الموضوع ما يزال يمثل جرحًا. وتأسست هوية أطفال منحدرين من أسر مهاجرة أو من أصول أفريقية بناءً على هذه الحقبة. وسعيت لذلك إلى شق طريق، لا يمثل، على نقيض ما يُوجه لي من انتقادات، مسار تهكّم يتمثل في الطلب من الجزائريين إحراز التقدم ذاته كحالنا في فرنسا، على غرار أحداث فيلم رديء يتم تبادل الرهائن والفديات فيه. ولا يجب اشتراط محاكاة في الجزائر كل تقدم يُحرز في فرنسا. وعلينا الشروع في مسار الاعتراف والألم هذا وتقبله لأنفسنا في المقام الأول. ويجب العمل على تحقيق "ذاكرة منصفة" وفقًا لقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور. وطلبت من بنجامان ستورا إعداد تقرير رغبةً مني في تحقيق هذه الغاية. ودفعتني الرغبة في تحقيقها إلى استهلال المبادرات التي اتخذت قبل صدور التقرير، ألا وهي الاعتراف بأنّ الجيش الفرنسي عذّب موريس أودان وقتله، والاعتراف بمسؤولية فرنسا عن مقتل علي بومنجل، وتنظيم عملية إعادة جماجم المقاومين الجزائريين إلى الجزائر، وإحياء ذكرى جميع الضحايا من المتظاهرين الجزائريين الذين سقطوا بالعشرات على جسر بيزون، [من جراء قمع مظاهرة 17 تشرين الأول/أكتوبر 1961، ملاحظة من هيئة التحرير]، أي بعد مرور 60 عامًا على تلك المأساة، وأنّ الجمهورية الفرنسية ارتكبت حينها خطأً لا يُغتفر. ولا شك أنّ الجزائريين والرئيس عبد المجيد تبون يرغبون في إحراز تقدم يتزامن مع التقدم المحرز في فرنسا لكن بنمطهم الخاص ووتيرتهم الخاصة. ويتطلب تحقيق هذه الغاية اتخاذ المزيد من المبادرات على غرار افتتاح دار الجزائر وفرنسا، ومتحف، واستئناف البحوث الأكاديمية بشأن هذا التاريخ المشترك والمنقسم، والقرار الذي اتخذته مع الرئيس عبد المجيد تبون بفتح المحفوظات من الجهتين الفرنسية والجزائرية، وتناول مسألة الجرائم التي ارتكبت خلال حقبة الاستعمار بلا أي محرمات، منذ بداية الحقبة وحتى التجارب النووية ومفقودي حرب الجزائر الذين تمثل قضيتهم موضوعًا بالغ الأهمية لعدد من الأسر، وأخيرًا استهلال لجنة مشتركة من المؤرخين. ويتطلب إحراز تقدم في هذا السبيل الاضطلاع بعمل داخلي ضروري على الصعيد السياسي والأخلاقي. ويمثل كل ما سبق أول خطوات من أجل شق طريق مشترك. وأذكر لقائي المؤثر والبارز بمجموعة من الشباب الفرنسيين هنا في قصر الإليزيه في نهاية شهر أيلول/سبتمبر 2021. وتحقق هذا اللقاء بفعل تقرير بنجامان ستورا وأتاح حينها جمع فسيفساء من الفرنسيين اختلفت أقدارهم مع الجزائر. واستخلصتُ أنّ جيل "أحفاد" حرب الجزائر يرغب في فهم ما حدث والاطلاع على ما حدث ولكن العيش معًا. ويسعى هذا الجيل إلى بناء مستقبل مشترك.

نحن فرنسيون وجزائريون مكلّفون من الأجيال السابقة. لن تخلو التعليقات على لقائنا من الغلو لأنّ أفعالنا تخضع لمحاكمة ولاء. وحالكم مثل حالي ولدتم بعد انتهاء حقبة الاستعمار. فبما نحن مذنبون؟ ومما يمكننا التبرؤ؟ وهل نحن متأثرون بالمظلومية التي يعاني منها الطرفان؟

[فترة سكوت طويلة]

نحن نحمل وزر ماضينا شئنا أم أبينا. وتعتمد نظرة الأجيال المعاصرة للماضي على الصيغة التي سرد فيها، لأنّ الماضي لا ينحصر في سلسلة وقائع بل يشمل سردنا له وما نختار الإبقاء عليه من أحداث ونحن نشارك في عملية السرد هذه. وقد أسعى إلى تجاهل تلك الوقائع، إلا أنّ ما تزال حرب الجزائر وحقبة الاستعمار تنتجان سردًا للماضي يعنينا ويربطنا به. ولم تهدأ تلك الرياح بعد، بل تفرض علينا السير بالاتجاه الذي تهب به. ويتبادر إلى ذهني الملاك الذي يتقدم نحو المستقبل وينظر إلى الماضي نظرةً مفجوعةً، ذاك الملاك في لوحة الفنان بول كلي بعنوان "الملاك الجديد"، الذي شمله بول ريكور في كتابه بعنوان الذاكرة والتاريخ والنسيان. وتذكّرني هذه الصورة بأنّ تيار هذا الماضي الذي نجهله يجرفنا. ونشبه جميعنا هذا الملاك الذي يجرفه التيار ويعجز عن التقدم نحو المستقبل إلا من خلال النظر إلى الماضي. وتتمثل المسألة في تحديد المرحلة التي تتيح لنا اعتبار أنّ الماضي يحبك لنا أمرًا مشتركًا يُمكّننا من بناء مستقبل معًا والتقدم في هذا السبيل، والاقتراب من تلك الخصوصية، بروح التسامح التي تتطلبها، أو على نقيض ذلك اعتبارًا من أي مرحلة يمكننا اعتبار أنّه يتعذر توافق مختلف أوجه ذاكرة هذا الماضي الذي سيفرّقنا إلى الأبد. وأعتقد أنّنا تقوقعنا في نظرية تخلو من الأمل وتتغنى بالانفصال وباستحالة التفكير بمستقبل مشترك بيننا. وتمثل هذه النظرية نظرية عجز واستسلام خطيرة، فالماضي يجمعنا ويفرقنا للأسباب عينها. ولا أعتقد أنّه يمكن للجزائر تحديد ذاتها بمنأى عن علاقتها بفرنسا، وبات يتعذر على فرنسا تحديد ذاتها بمعزل عن علاقتها بالجزائر. وتفترض هذه العلاقة المواجهة بيننا إلا أنها ما يتطلبه تحقيق خلاصنا. وأعتقد أنّه يجب علينا إدراج هذه العلاقة في إطار مفهوم ومقبول على الصعيد الإنساني. ولا ينحصر هذا الإطار في إرساء إطار سياسي ولا ضرورة سياسية تقع على عاتق رئيسي دولتين، بل يشمل ما هو خصوصي أكثر وأكثر شدةً وأكثر إلحاحًا بالنسبة لجميع أولئك الذين يعيشون على ضفتي البحر الأبيض المتوسط. وتتمثل أول صعوبة منذ أجل طويل في إمكانية حصر توصيف العلاقة بين الجزائر وفرنسا، وبين الماضي والحاضر، بصفة واحدة. وتثير هذه المسألة قلقي وقد تعيق التقدّم. وتطرقت في معرض خطاب ألقيته في السفارة الفرنسية خلال الرحلة التي أجريتها إلى الجزائر في الصيف المنصرم إلى قصة حب بين الجزائر وفرنسا. وليست علاقة بين مستعمِر ومتسعمَر مثلما أراد البعض فهمها سعيًا إلى نبش جدل قديم ومُؤذٍ. وذكّرني ذلك مجددًا إلى أي حد يصعب توصيف العلاقة التي تجمع البلدين، ولا يمكن حصر وصفها بصفة واحدة. ويدفعنا انتقاء الكلمات إلى الانحياز لجهة من الجهتين، وطبع التاريخ ونغامر بالاكتفاء بصفة واحدة. ويفسّر ذلك حذري الشديد في الإجابة على أسئلتكم، لأنّ كل كلمة ستثير الشك في الانحياز لجهة أو لأخرى. ويتعسر وصف العلاقة التي تربط فرنسا والجزائر ولا يمكن توصيفها بحكم واحد. وإنّ هذه العلاقة علاقة يجب مناقشتها، وعلاقة استطرادية يتعذر وصفها وصفًا شافعًا، ومع أنّها علاقة يمكن تحليلها، فلا يمكن الجزم فيها بلا إثارة جروح، أو لم يحن آن ذلك بعد. ولا أعلم إذا كان يمكن تطبيع هذه العلاقة في الوقت الحاضر. وتتسم العلاقة بين فرنسا والجزائر بطابع شرق أوسطي يثير أساطير عظيمة، وأحداث مأساوية خاصة بمنطقة البحر الأبيض المتوسط، ووقائع استقطابية. وأعوّل كثيرًا على فكرة لجنة المؤرخين، وعمل تاريخي وتأريخي مشترك ومتقاسم لأنّ سرد الماضي يتطلب وقائع وحيادية. ويمكن استخدام السرد العلمي الذي سيصدر عن اللجنة كمرجعية وبغية تبديد التخيلات. وستحرر هذه العلاقة بالحقيقة السرديات والمخيلات والتفرّد، إذ أعتقد أنّها تنطوي على إمكانات سردية هائلة. ولا يُكتب التاريخ بين فرنسا والجزائر بالصيغ ذاتها ولا يعبّر عنه بالأفعال عينها ولا يسرد على نحو مشترك منذ عام 1962. وتتمثل القضية في معرفة سبيل استحداث سرد مشترك وسبيل حث الأجيال الجديدة على اعتناقه. وأكثرتُ الحديث في الجزائر، مثلما تعلمون، عن الإنتاج السينمائي والترجمة، لأنّني أعتقد أنّ إتاحة فرصة صياغة الخيال والسرد للشباب والاستحواذ على هذا الحيز يكتسي أهمية تضاف إلى عمل المؤرخين الحر والعلمي.

يحاصرني وجهان للذاكرة بوصفي جزائري، إذ يجب عليّ التمسك المفرط بذاكرة حرب إنهاء استعمار لم أعايش حقبته من جهة والتزام قانوني بفقدان ذاكرة حرب عايشتها، ألا وهي حرب التسعينات من جهة أخرى. وأطرح سؤالي كما يلي: هل يمثل رئيس الجمهورية الفرنسي، فيما يتعلق بالجزائر، مؤرخًا يخشى عقاب صناديق الاقتراع ويعمل تمهيدًا لإعادة انتخابه؟ وهل تعد الجزائر مخاطرةً سياسيةً؟

نعم، هي كذلك. ولا شك أني لم استدرك أهمية ذلك عندما كنت مرشحًا للانتخابات الرئاسية في عام 2017. أما اليوم، فتحررت من هذا الأمر. ويُفرض علينا فيما يتعلق بالجزائر اختيار جهة، مع أنّه في هذه الحالة لا ينحصر الخيار بين الإنكار والتوبة، والفخر الوطني والتوبة. وحصر الكثيرون أنفسهم في هذه الخيارات التي يفترض أنّه يتعذر الترفع عنها، وفي هذه الصيغ. وتبلور ذلك في التعليقات الصارخة على صور زيارتي لوهران التي صدرت عن كل من كان يردد أنّ الأمور لم تجرِ على ما يرام وكل من كان يرغب في تصديق ذلك. وتتجلى هذه الصدمة في مجريات لقاء الحشد في وهران وكيف تم النظر إليه. وأبعَدَت السلطات المحلية الحشد، في الجزائر العاصمة وفي وهران، عن رئيس الجمهورية الفرنسي خشيةً منها من المخاطرة. مع أنني خالفتُ البرتوكول في لحظة معينة واقتربتُ من الحشد الذي كانت ردة فعله عفوية وودودة. وراح يقول بعضهم بكل حرارة: "أهلًا وسهلًا! كانت تعابير الحشد مُرحّبة. ثم انضم بعض الأشخاص إلى الحشد ملقين خطاب اتخذ طابع سياسي أكثر ونطق رجل بشتيمة أو شتيمتين، وانتشر مقطع فيديو بذلك انتشارًا واسعًا وانحصرت الدلالة على الزيارة بهذا المقطع. ولا يفر أي سياسي من الشتائم وفي جميع البلدان وحتى في شوارع فرنسا، فهذا جزء من حياة السياسيين. وتجدر الإشارة إلى أنّ الإجماع لا يتفق اتفاقًا كاملًا مع الديمقراطية. ولنعد إلى زيارتي لمدينة وهران، إذ لا أعتبر شعار "واحد، اثنان، ثلاثة، تحيا الجزائر" رفضًا لفرنسا، بل أفسّره على النحو التالي: "أنا بحاجة لأعبّر لك عن هويتي وعن أصولي" وتسرّع اليمين المتطرف الفرنسي في الاستخلاص أنّ الشعار مهين، فرددوا أنّ: رئيس الجمهورية قبل الإهانة! ويبحث كل طرف عن الراحة في مواقفه التقليدية، كما هو الحال دائمًا. واعتدنا هذه المواقف عندما كان الأسى يغلب علينا. غير أنّه يكمن كم هائل من القدرات في هذه الصرخات وهذه الشعارات وهذا اللقاء وردود الفعل هذه. وتكمن هذه القدرات في هذا الحشد الذي لا يتوجه لمستعمر، بل كمشجع يتحمس لفريق كرة قدم. وشعرت أنّ هذه المرحلة من الزيارة كانت واعدة، لأنّ هذا الحشد يرى جيلًا آخرًا، وهو ما دفعني إلى التوقف خلال زيارتي إلى مدينة وهران في شركة الإنتاج التي نشأت فيها موسيقى الرايّ "ديسكو مغرب" والتي شهرها مجددًا دي جي سنيك. ويجب التحادث بسبل مختلفة بالتوازي مع الخطابات. وكنت فخورًا بصورة خاصة برفقة عدد من الأشخاص حاملي الجنسية المزدوجة في المهجر لي خلال هذه الزيارة. ويمثل ذلك اعتراف ويحرر إمكانية استهلال أنشطة ويفسح مجال للخيال والقدرات والابتكار. وحُث هذا الشباب الفرنسي الجزائري على النسيان لفترة طويلة، فلا يحق للفرنسي الصالح التحدث عن إرثه إن لم يكن هذا الإرث مصدر فخر. ويتمثل في ذلك النضال السياسي الذي أقوده الذي يختلف عن نضال مؤرخ، فنضالي نضال اعتراف وهو نضال سياسي إلى حد كبير.

ولكن في هذه الحالة يثار انطباع أنكم رئيس شاب يعاني من ضيق الوقت. فهل سيتوفر لكم الوقت الكافي؟ لأنّ إثبات الجواب يتطلب وقتًا.

لا ننهي المشاريع الهامة خلال فترة ترؤسنا، وتوصلتُ الآن إلى هذه القناعة. ويصعب جدًا إنجاز المشاريع الكبيرة والأساسية في البلدان الديمقراطية خلال ولاية رئاسية أو ولايتين، فنحن لم نعد ملوك يحكمون لفترة عقود. ولكن أعتقد أننا نتغلّب على هذا العجز الناجم عن ضيق الوقت والمهل القصيرة من خلال الانسجام مع روح العصر والقيام بما لا رجعة فيه. ولا يتمثل ما أرغب في إنجازه في مشروع سينتج جميع ثماره فورًا، لأنّ ذلك مستحيل. ولا يقتنع الجميع في قدرة ذلك على التحقق، إلا أنّ راحت بعض النتائج المثمرة بالفعل تبرز من الجذور. ويجب إعادة النظر في هذا التاريخ منذ بدايته، وإنشاء "ذاكرة منصفة" وتبادل سرد مختلف صِيَغ هذا التاريخ. وأنتم على حق، وعلى سبيل المثال أوردت صحيفة في فرنسا [وهي صحيفة لو موند في 2 نشرين الثاني/أكتوبر 2021، ملاحظة من هيئة التحرير]، كلامًا صدر مني عن استغلال النظام الجزائري ريع الذاكرة أثار جدلًا واسعًا منذ عام. ولعله كان كلامًا غير ملائم وجارح، فصدر سؤال "متى نشأت الأمة الجزائرية؟ جميع ردود الفعل. وكان قد نُفل كلامي بتسرّع، ولم يكن بالضبط ما قلته. بيد أنّ هذا التوتر يفضي إلى مسارات جديدة. ويجب التفكّر بشأن مفهوم الدولة القومية خارج أوروبا وتاريخها الخاص، والمعنى الذي يتخذه هذا المفهوم في البلدان الأخرى، في أفريقيا، حيث تواجه الدولة القومية الواقع العرقي والديني. ويجب كذلك على فرنسا والجزائر التفكّر بشأن تاريخ الجزائر بمعزل عن حقبة الاستعمار، وليس حصره بمرحلة ما بعد الاستعمار، بل شمل الحقبة التي سبقته كذلك.

هل فاجأتكم شدة رد الفعل الجزائري؟

نعم! لم أعتقد أنّ الأمر سيتخذ هذا الحيز الكبير من الاهتمام. ولكن ما يثير الاهتمام في مراحل التوتر هو أنّها تتيح لنا استخلاص العبر. ويستحيل تحقيق النجاح إن لم نتعلم من مراحل التوتر هذه. ويجب أن نتمكن بعد ذلك من المصافاة والالتزام، وهو ما استطعنا تحقيقه مع الرئيس عبد المجيد تبون.

يرمي مطلب الجانب الجزائري الاعتذار إلى تأكيد سرد وطني متسق، بلا الاضطلاع بأي عمل على الذات، فيظن البعض أنّ اعتذار فرنسا يثبّت صحة السرد الوطني الجزائري في مجمله المصطنع. وسيعفينا ذلك من الاعتراف بدرجة تعقيد أحداث التاريخ وآلاف الجزائريين الذين سقطوا من جراء التقاتل خلال تلك الحقبة. ويتمثل الهدف من مطالبة فرنسا بالاعتذار أحيانًا في التواري من الحقيقة والحكم زورًا على التاريخ. وكيف يُنظر في فرنسا إلى مطلب الاعتذار الذي تأخرت الجزائر في الإعراب عنه؟

يمكنكم أنتم قول ذلك، أما أنا، فلا أستطيع، لأنّ الحرب وقعت. ولن يصلح الاعتذار من عدمه الأمور، إذ يجب العودة إلى الحدث الأساسي الذي نجم عنه، وإلى التاريخ، وتوصيفه.

غير أنّ هذا المطلب لم يصدر منذ بضعة عقود.

كلا. ويُعزى ذلك، مثلما قلت لكم، إلى بروز كل ما كُبت في الماضي. وكان قد حال الصمت دون كل ذلك. ويكمن في ذلك خطر هذه اللحظات التي قد نستسلم لهذه المطالب فيها أو ننتفض بالتكرار: "ليس عليّ أن أقول شيئًا أو أن أفعل شيئًا. وأسوأ ما قد يقال في هذا التاريخ المشترك هو "لا عمل يجمعنا". وتستنزف منا فترات التوتر الثنائي في المرحلة الراهنة وقتًا طويلًا، وليس الأمر بهذا السوء، لأنّه يفضي إلى الشروع في محادثات. ويجب استكمال هذا الحوار، وهو ما يهمني في الدرجة الأولى. ويتمثل أسوأ الأمور في الخلاصة: "إلى اعتذار كل طرف من الآخر والمضي في سبيله." ويتسم الجواب الخاطئ بالدرجة ذاتها من عنف الإنكار. ولن يكون ذلك اعترافًا حقيقيًا في هذه الحالة، بل سينحصر في كونه تصفية حسابات نهائية، وهو ما يختلف عن العمل على الذاكرة وعلى التاريخ. ويستدعي هذا النوع من العمل، على نقيض ذلك، الاعتراف أنّ فيه ما يتعذر وصفه وفهمه واتخاذ قرار في شأنه وربما العفو عنه. ولا يتعين علي طلب العفو، إذ لا يكمن جوهر الموضوع في ذلك، فمن شأن طلب العفو أن يقطع كل العلاقات. ولن أطلب العفو من الجزائر وسأفصح عن سبب ذلك. وينحصر طلب العفو الجماعي الذي قدمته في الحركيين، لأنّ الجمهورية كانت قد قطعت وعدًا نكثته عدة مرات. وكانت قد وعدتهم بحمايتهم واستقبالهم. ونعم طلبت العفو في هذه الحالة. وطلبت العفو من أسرة موريس أودين ومن أحفاد علي بومنجل، لأنّ مسؤولية بعض الحكومات ومسؤولية نظام وفرنسا تتجلى من خلال قدرهما الاستثنائيين. وارتُكب إثم بحقهما بوضوح لا يقبل الجدل. أما بالنسبة للباقي، فثمة مسار علينا المضي فيه، مسار يتبلور فيه واقع تكون فيه الهوية سرد يروى على نحو متواصل. أما اليوم، فتتواجه مختلف معالم هذا السرد للأسف.

هل تتصورون إمكانية إقامة حفل تأبين يحضره الرئيس الجزائري في المكان الذي دُفن فيه أتباع الأمير عبد القادر الخمسة والعشرين في قصر أمبواز؟

أعتقد أنّ مناسبة كهذه ستمثل لحظة جميلة ومؤثرة وأتمنى أن تتحقق. وآمل في هذا الصدد أن يتمكن الرئيس عبد المجيد تبون من زيارة فرنسا في عام 2023.

وأعتقد أنّه سيكون لذلك دلالةً في تاريخ الجزائريين. وستتيح هذه المناسبة للفرنسيين فهم واقع غالبًا ما كانت معالمه محجوبة. وسيمثل ذلك مناسبة لمواجهة حقيقة تاريخنا بلا حصره في جزء معيّن بحجة أنّ قسمًا كبيرًا من الفاعلين فيه ما يزالون على قيض الحياة، ومواصلة العمل مع الرئيس عبد المجيد تبون على علاقة صداقة يبدو لي أنّها منقطعة النظير بين بلدينا.

تستضيف فرنسا أشخاصًا يعدّهم البعض معارضين جزائريين والبعض الآخر محرضين ناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي، وتطلب الجزائر تسليمهم لها من أجل تحسين العلاقات الثنائية. فهل أُحرز تقدم في هذا الملف؟

يفرض علينا تاريخنا من جهة والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان ودستورنا من جهة أخرى، واجب استضافة كل من يناضلون من أجل أفكارهم وقد يتعرضون للخطر في بلدانهم بسبب ذلك وحمايتهم، وهو حق اللجوء. وانتفعت نساء ورجال من الجزائر كانوا معرضين للخطر بفعل نضالهم السياسي بحق اللجوء في فرنسا. وينتظر أشخاص آخرون الحصول على هذه الصفة. ولست مضطرًا للتعليق على حالاتهم لأنها قرارات تخضع لإشراف قاضٍ. وتكمن الصعوبة التي نعاني منها بالفعل مع العديد من البلدان في شرح استقلالية القضاة. ويتمثل التوازن الذي يجب أن نبلغه في احترام دستورنا وحق النساء والرجال بالدفاع عن أفكارهم بحرية من جهة وعدم المشاركة في إهانة القادة السياسيين في هذه البلدان بحيث تصبح العلاقة الثنائية مستحيلة من جهة أخرى. ويجب أن نذكّر بألا ينحصر تركيز العلاقة الثنائية على هذا الموضوع لأنّه لا يمثل مسألةً "سياسيةً" بالفعل، ولا تتخذ الحكومة الفرنسية القرارات في هذه الحالات لأنّها من اختصاص دستورنا وقاضتنا الذين يطبقونه. ويجب كذلك أن يحسن الذين ينتفعون بحق اللجوء استخدامه. ويمنح اللجوء حقوق ويفرض واجبات، وتتمثل الحقوق في دفاع الشخص عن أفكاره بحرية، وقيادته النضال السياسي بكرامة وحرية في بلد يحميه، وتشمل الواجبات احترام الأفراد، والحفاظ على حسن الكياسة الملائم، بحيث لا تصبح العلاقة الثنائية مستحيلة.

يذكّرنا اجتياح أوكرانيا أنّ ما لا يمكن تصوره، ألا وهو عودة الحرب في أوروبا، ممكنًا. هل ممكن أن تنشب حرب في المغرب العربي؟

يكتسي هذا السؤال أهميةً. ولا أريد الظن أنّ إمكانية نشوب حرب جائزة ولا التفكير بها، لأنّ لا الجزائر ولا المغرب قوتان غير عقلانيتين. أما فيما يتعلق بأوكرانيا، فنتج غزوها عن عملية سياسية متجذرة في التاريخ وتقوم على ضغينة روسية. ويمثل كذلك عدم احترام قوة امبريالية لسلامة أراضي شعب على حدود أوروبا. ويدفعني ذلك إلى التكرار لنظرائي الأفارقة أنّه لا يمكنكم دعم روسيا أو اتخاذ مواقف ملبوسة بشأن هذا الغزو لأنّكم لطالما ناضلتم ضد الامبريالية نضالًا وجوديًا. وأعود إلى سؤالكم فأقول أنّي لا أظن أنّ الحرب خيار قائم في منظور المغرب والجزائر. وتعاني العلاقة بين البلدين من توتر حقيقي، إلا أنّ ما يثير القلق فعلًا هو أن يتجذر التوتر في الواقع الوطني وفي الحياة السياسية في البلدين. وتكتسي التهدئة بين البلدين أهميةً بالنسبة للجزائر والمغرب وفرنسا. ولا أظن أن خيار الحرب سيبرز كواقع، لكن أرى من ناحية أخرى، تكهنات البعض، وخيال البعض الآخر وحتى رغبة البعض في شن حرب، وأرى التباعد بين البلدين الناجم عن ذلك.

هل تضفي النساء في إيران طابعًا محقًا للذين يكافحون النزعة الإسلامية المتطرفة في فرنسا وفي بلدان أخرى؟ وللذين ينددون بحجاب النساء؟ هل يلقن نضال الإيرانيات درسًا للذين يتهمون فرنسا بكراهية الإسلام لحسابات خاصة أو لسهولة توجيه الاتهامات؟

سأحرص أولًا على عدم استخدام نضال الإيرانيات لأي غرض من الأغراض، لأنّه عمل بطولي. وتقع علينا في فرنسا مسؤولية الانتصار في النضال الفكري المتمثل في تفسير ما هي فرنسا وكفاحها من أجل العلمانية. وأعتقد أنّ هذا النضال أساسيٌ وأدافع عن طابعه الوجودي والمعاصر والحديث على حد سواء في بلدنا، إذ يمثّل هذا النضال جوهر العالمية. ولكن أعتقد أنّه للإيرانيات نضالهن الخاص أيضًا. وينفرد نضالهن بتميزه وتعذر اختزاله مقارنةً ببلدان الأخرى، وبكونه لحظة عالمية يستحيل فيها احتمال التعسف فيثير ردود فعل. ويعترف جزءٌ من إيران "بالإساءة لاستخدام الطاعة"، وهو تعبير استخدمتموه، ويتساءل عما إذا كان بإمكانه تأييده بعد الآن. ويمثل نضال النساء الذي تبناه عدد من الرجال وجزء كبير من الشباب، نضالًا ضد القمع بطبيعة الحال واستخدام الدين على النحو الذي يجري في البلد وممارسات الرجال على النساء التي تعبّر في جوهرها عن رفض الاعتراف بهن. وأعتقد أنّ هذا النضال سيرسي أسسًا جديدةً لأنّه لا يمكن لشعب تحرير ذاته من قبضة حكامه إلا بنفسه. وتهتز النفوس لتضحية هؤلاء النساء اللاتي تسِرن في مواجهة الخنادق مكشوفات الرأس يتطاير شعرهن في الهواء. وتثير قدراتهن على التحدي ونموذجيتهن الذهول بالفعل. وآمل أن تدفع القوة الكامنة في حراك الإيرانيات الشابات والشباب في فرنسا وفي بلدان أخرى إلى التفكّر بنهجهم إزاء الحجاب. ويتمثل الأهم في تأثير الحراك في وعي الجموع. ويصعب، فضلًا عن ذلك، على مجتمعاتنا فهم أمر أعتقد أنّه يندرج في المنظور النيتشوي، ألا وهو أنّ الإيرانيات انتصرن بالفعل! وينصرهن عدم خوفهن من الموت. ويطرح هذا الحراك تحديًا في الغرب في نهاية المطاف، فيثير مسألة بالنسبة لنا جميعًا معرفة من لا يهاب الموت من أجل قيمه. وتذكرنا الأحداث في إيران بأهمية الخيارات الأساسية في حياة الأمم والأفراد.

يمثل نزع النساء في إيران حجابهن، بصرف النظر عما يقال عن الأحداث في البلد، رسالةً قويةً تؤثر في جميع النقاشات بشأن النزعات الإسلامية المتطرفة ووضع المرأة في جميع البلدان التي تشمل فرنسا.

أود أن أعرب عن إعجابي بهؤلاء النساء بوصفي رئيسًا للجمهورية. وتشتد قوة التبادل في حوار الوعي بين إيرانية من جهة وشابة محجبة في فرنسا أو في بلد آخر من جهة أخرى بشأن الحجاب، لأنّه بإمكانهما الترابط وفهم بعضهما والتفاعل مع بعضهما. وأعتقد أنّ مسارات هؤلاء النساء ستفضي إلى ما هو عالمي، ألا وهو الوعد الذي قطعته الجمهورية والذي يعد أعظم مواطن قوتها. ويستوقف حراك الإيرانيات اللاتي يتساءلن أحيانًا في فرنسا، لأنّه يشدد على حق النساء الشرعي في حرية التصرف بجسدهن وحقهن في المساواة مع الرجال. وإذا تسألونني كيف أنظر للأمور بشأن الحجاب في فرنسا، فأقول أولًا أنّني متمسك برفضي الذي لا يقبل النقاش لمحاولات السماح بارتداء الفتيات الحجاب في المدرسة، لأنّ المدرسة تمثل المكان الذي يتكوّن فيه الوعي، لذا يجب أن يبقى الدين وثقل العائلة خارج هذا الحيز، ويستحيل تقديم أي تنازلات في هذا الصدد. ويجب الدفاع عن قانون عام 1905 والفقه القضائي الناجم عنه وقانون عام 2004 الذين يهددهم النقاب أو غيره والتذكير بهم وتطبيقهم بغية التصدي لهذا الخطر. ولا ينبغي التنازل في أي جانب من جوانب هذا الموضوع، فيجب تقديم شرح لجميع هذه العائلات، والأمهات أحيانًا والآباء غالبًا، والإخوان أحيانًا وللفتيات بصورة خاصة عن حرية الضمير التي يدافع عنها القانون هي أسمى درجات الاحترام. ويجب التذكير أنّ المدرسة تضمن المساواة بصرف النظر عن هويتكم أو منشأكم أو أصلكم، وأنّها تتيح لكم تكوين ضمير حر، لأنني أعتقد أنّ الخيارات التي تتخذونها في هذا السن ليست خياراتكم. ويكتسي لذلك بالنسبة لي تسليحكم بما يتيح لكم تكوين ضمائركم وتحريرها بالفعل أهمية كبيرة.

فتختار الفتيات ارتداء الحجاب في مرحلة لاحقة؟ وقد لا تختار ذلك. ولا يمثل ذلك إنكار دين معيّن أو التهجّم على دين معيّن، فأنا أنظر إلى واقع الحجاب في بلدنا. وقد تحث بعض المجموعات الانفصالية، وهو التعبير الذي أستخدمه، على ارتداء الحجاب أحيانًا من خلال التضليل الديني سعيًا إلى تحوير الجمهورية وترويج إسلام سياسي. ويمثل الحجاب في هذه الحالة كذلك عنصرًا من عناصر الصراع الفكري. ويتمثل الرد السليم على هذه المسألة في القانون الذي أعلنت عنه في الخطاب الذي ألقيته في مدينة لي مورو وما تلاه [قانون تعزيز احترام مبادئ الجمهورية، ملاحظة من هيئة التحرير]. وترمي قوانيننا إلى معالجة جذور هذه الظاهرة، أي التصدي للجمعيات والهيئات التي تنكر المبادئ المؤسسة لجمهوريتنا، ولا سيّما المساواة بين المرأة والرجل. غير أنّه لا أرى طائلًا من منع ارتداء الحجاب في الأماكن العامة منعًا باتًا ولا يتماشى هكذا قرار مع العلمانية الجمهورية. ولا يحق لنا منع امرأة من ارتداء الحجاب إذا اختارت ذلك بحرية، ولكن يجب أن ترمي جل مساعينا إلى ألا يمسي الحجاب أداة سيطرة اجتماعية، بل أن تتمكن المرأة من الاختيار حقًا. ولا يُمنع، في الحقيقة، ارتداء الحجاب في الأماكن العامة في أي بلد من بلدان العالم. ونعد من البلدان الأشد صرامةً في هذا الصدد، وأدافع عن قراراتنا فأشرح التباين بين نموذج عالمي كالنموذج الذي ننتهجه في فرنسا وبين أي نموذج آخر يقوم على التعددية الثقافية أو العرقية. ولا يجب أن يرسي مجتمعنا هذه الاختلافات في طريقة عمله ولا أن يُشعر بعض الناس أنّ دينهم أو أصلهم يفرض عليهم الإقامة الجبرية، وهو ما يمثل التحدي الذي نواجهه في المرحلة الراهنة، إذ يشمل الدفاع عن احترام الشؤون الدينية والممارسات الدينية بكل أوجهها والقدرة على الوفاء بوعد تحرر يثمر عن التعليم والعمل والاقتصاد في آن معًا. وكانت قد خلعت الأمهات منذ عدة أجيال الحجاب عند وصولهن إلى فرنسا. وها هي تشرع بناتهن في ارتدائه! لأنّهن يطننّ أن حب الجمهورية لا يشملهن، وبأنّه لم يتم الاعتراف بآبائهن قط، وأنّ إخوانهن يعانون من أجل الحصول على وظائف. وما هو أفضل سبيل لرفض جمهورية ترفضكم؟ وفهمن السبيل، ألا وهو ارتداء الحجاب. وأنتم ترون أنّ مسألة الحجاب تشمل الشؤون الدينية وبروز التحفظ الديني مجددًا الذي نتصدى له في عدة بلدان والذي نقيضه بوضوح في فرنسا من خلال فرض الاحترام الكامل لقوانين الجمهورية ورفض الإسلام السياسي، ونواجه كذلك نوع من أنواع الثقافة المضادة.

ما هو السبيل لتحقيق التوازن بين احتياجات الفرنسيين الذين يربطون بين انعدام الأمن والهجرة، والذين يريدون من فرنسا أن تنغلق من جهة، وضرورة حفاظ فرنسا على حيوية الفرنكوفونية وصون دعم النخب في بلدان الجنوب لها وسوقهم ومساهماتهم؟ وأعني كيف يمكن لفرنسا الحد من إصدارها للتأشيرات وحفاظها على تأثيرها؟

نواجه مشكلة جنوح مرتبطة بالهجرة والسيطرة غير السليمة عليها على حدودنا وفي توزيع المهاجرين في أراضينا، لطالما كانت فرنسا بلد هجرة نحن بحاجة إليها. غير أنّ تدفق الهجرة تسارع في السنوات المنصرمة بسبب الضغط المتعاظم الذي واجهته أوروبا من الجنوب والشرق والناجم أيضًا عن التدفقات الثانوية التي تسجل في أوروبا. وترتبط هذه الظاهرة بالأزمات والحروب في منطقة الشرق الأوسط وفي القرن الأفريقي، وافتقار عدد من البلدان النامية إلى الفرص الاقتصادية. ويبرز الحل أولًا من خلال التعاون المسؤول مع بلدان المنشأ والعبور، وهو ما دفعنا إلى تعزيز المساعدة الإنمائية الرسمية على نحو منقطع النظير. ولا ينحصر الحل في هيكلة الحوار السياسي، وتنمية الاستثمار المتضامن، وتيسير نقل المواهب من خلال الشروع بإصلاح سياسة إصدار التأشيرات التي ننتهجها فحسب، بل يشمل كذلك التعاون مع بلدان المنشأ من أجل مكافحة الهجرة غير الشرعية، وتفكيك شبكات المهربين وإعادة الأفراد الذين يجب أن يعودوا إلى بلدانهم.

ويبرز كذلك تحدي الفرنكوفونية. قال لي صديق حديثًا أنّه بعد خمسة أعوام سيتعذر على فرنسا التواصل مع وزير من المغرب العربي بالفرنسية.

لا أعتقد أنّ مشكلة الفرنكوفونية مرتبطة بما سبق، لأنّ موضوع الفرنكوفونية يتجذر في الماضي، وتتقهقر الفرنكوفونية منذ زهاء خمسة عشر عامًا. ونعلم جميعنا هذا الأمر وندركه جيدًا. وما السبب؟ يشيع استخدام اللغة الإنجليزية في البلدان الفرنكوفونية في أفريقيا لأنّها تضمن بطريقة ما النهوض بقدرة التنقل والتواصل مع مناطق أخرى في العالم. وتجسّد اللغة الإنجليزية في تلك البلدان الغيرية الحقيقية، ولا سيّما أنّها تختلف عن الغيرية المرتبطة بالهيمنة في بعض البلدان التي استعمرتها فرنسا في الماضي. ولنتذكّر أنّ اللغة الفرنسية سجلت نجاحًا باهرًا في أوساط عدم الانحياز التي كانت تعد استخدام اللغة الإنجليزية أو الأمريكية انحيازًا لجهة ضد أخرى. أما اليوم، فيظهر مجددًا ما كان مكبوتًا بشأن ذاكرة حقبة الاستعمار الذي يتبلور أحيانًا في رفض اللغة الفرنسية كذلك. غير أنّ هذا الحراك ربط اللغة الفرنسية بفرنسا، لذا يتأثر رفض اللغة برفض البلد. وأدى، فضلًا عن ذلك، انتهاج عدة قوى امبريالية استراتيجية منهجية فاقمت نبذ فرنسا سعيًا إلى إخراجها من أفريقيا. وتستخدم استراتيجيات امبريالية جديدة معاداة الاستعمار جهارًا في المرحلة الراهنة. وتفاقم نبذ فرنسا من جراء الحركات الإسلامية، إذ ينصب الإسلام السياسي العداء اللدود لفرنسا لأنّها تدافع عن العالمية التي تشمل العلمانية. وفاقم المغتربون نبذ فرنسا كذلك والإحباط الذي ولّده قصور الجمهورية في دمجهم. وراحت تتسارع الحركة اليوم، مع أنّي غيرت سياستي منذ الخطاب الذي ألقيته في واغادوغو في تشرين الثاني/نوفمبر 2017. وسأواظب على ذلك إذ أعتقد أننا سننجح في نهاية المطاف في إحراز تقدم جوهري في العلاقة بين فرنسا وتلك البلدان. وسنتمكن من تحقيق المصالحة. وأعتقد أخيرًا أنّ الدفاع عن اللغة الفرنسية يقع على عاتق الكتاب بالفرنسية. ويجب أن تساعدهم فرنسا وأن تنهض بقدراتهم ليحققوا ذلك. وأذكركم على سبيل المثال وليلى سليماني وآلان مابانكو، ففي الواقع يبرز إبداع اللغة الفرنسية في أفريقيا وآسيا ومنطقة الكاريبي ومنطقة المحيط الهادئ. وأرغب في العمل في السنوات المقبلة لتستعيد الفرنكوفونية مكانتها بوصفها حيزًا للابتكار والإبداع والتنقل. وسيمثل مؤتمر قمة الفرنكوفونية الذي سننظمه في عام 2024 في قصر فيلليه-كوتيريه في هذا الصدد فعاليةً مهمةً في مجال الابتكار والترجمة والتبادل الاقتصادي. ويجب علينا مضاعفة جهودنا تمهيدًا لذلك.

إلا أنّ المسألة تتجاوز ذلك، إذ تصوّت غالبًا جماعاتنا المقيمة في فرنسا أو في أوروبا للإسلاميين عندما تعقد انتخابات تشريعية في بلداننا. ويحظى التيار المحافظ بتصويت مغتربي المغرب العربي المقيمين في الغرب، أي أنّ الناخبين المحافظين في بلداننا هم الذين يتمتعون بالحريات في الغرب.

لا يعيش الذين يدعمون الإسلام السياسي في قبضته. ويتمتع في فرنسا جميع الذين يطالبون بالإسلام السياسي بحقوق اجتماعية لا يوفرها لهم أي نظام إسلام سياسي، وحريات حقيقية لا يمنحها أي نظام إسلامي سياسي. ويعد هذا السلوك نبذًا للجمهورية التي ينتفعون بمالها والحقوق التي تمنحها. ويجب الكف عن هذا النفاق

آخر تعديل يوم 20/02/2023

أعلى الصفحة